مدينة سيدي سليمان تحتفي بالذاكرة والتاريخ- توفيق أكياس، باحث في التاريخ.
يتضمن هذا المقال تقريرا مفصلا عن الندوة العلمية التي نظمتها جمعية أستاذات وأساتذة الاجتماعيات بمدينة سيدي سليمان يوم السبت الأخير"حول كتاب الذاكرة والتاريخ –المغرب خلال الفترة الاستعمارية (1912 إلى 1956)" -الفائز مؤخرا بجائزة المغرب للكتاب في صنف العلوم الانسانية-. بحضور هرمين من أهرام الدراسات التاريخية بالمغرب الدكتور جامع بيضا مدير أرشيف المغرب، والدكتور محمد حبيدة أستاذ التاريخ بكلية الآداب والعلوم الانسانية بجامعة ابن طفيل، اللذين قدما قراءة حول الكتاب قربت الحاضرين من مضامينه ومن الاضافات التي أغنى بها الحقل التاريخي بالمغرب. إضافة إلى القراءة المتميزة للأستاذ حميد هيمة أستاذ الاجتماعيات بثانوية القصيبة الذي قام بدراسة نقدية لأفكار الكتاب في مقارنة مع واقع محتويات دروس التاريخ بالثانوي التاهيلي بالمغرب.
ترأست الجلسة الأستاذة آمال الراجي التي رحبت بالحضور وقدمت برنامج الندوة. حيث أعطت الكلمة للأستاذ إبراهيم المحمديالكاتب العام للجمعية قدم خلالها باسم الجمعية شكره لكل الهيئات والمؤسسات والأفراد الذين أسهموا في الاعداد لهذه الندوة.ثم أخذالكلمة ممثل عن تلاميذ نادي المواطنة بثانوية علال الفاسي عبر خلالها باسم زملائه في المؤسسة عن فخرهم واعتزازهم بأستاذهم السابق الذي رغم انتقاله للتدريس بكلية الآداب جامعة محمد الخامس بالرباط، ورغم انشغالاته الاكاديمية. حافظ على تواصله مع تلاميذ سيدي سليمان عبر اسهامه الدائم في إنجاح أنشطة الجمعية خاصة تلك المتعلقة بالدعم التربوي للتلاميذ.
بعد ذلك قدمت رئيسة الندوة ورقة تعريفية عن الاستاذ جامع بيضا للحاضرين ليقدم المداخلة الأولى في الندوة.
وقد استهلالأستاذ جامع بيضامداخلته بالإشادة بمناقب الباحث وأخلاقه الإنسانية والعلمية التي مكنته من إنجاز الكتاب المحتفى به، ثم أعلن أنه لن يقدم قراءة لكتاب أشرف عليه، وإنما سيعمل على إبراز أهمية الموضوع. حيث أكد أن الذاكرة والتاريخ مصطلحان يرتبطان ارتباطا وثيقا تم استهلاكهما إعلاميا بشكلواسع، لكن هذا الاستعمال شابه خلط كبير الأمر الذي استدعي العمل على توضيح هذا اللبس والتمييز بين خصائص كل منهما.
فالتاريخ مادة أكاديمية تخضع لقواعد ومناهج تنبني على البرهنة والاستدلال. في حين أن الذاكرة رغم مشروعيتها ليست بتاريخ لأنها تطغى عليها العاطفة والانتقائية، وأيضا الرهانات المادية والمعنوية. لتوضيح هذا التعريف قدم الأستاذ جامع بيضا مثالا عن الانتقائية في التعامل مع الذاكرة من خلال اشتغاله كمدير لأرشيف المغرب،إذ أن الاهتمام بالوثائق والأرشيفات يخضع في الكثير من الأحيان للانتقائية التي تفرضها الرهانات المادية والسياسية والأيديولوجية،مشيرا أن الانتقائية ليست تاريخا وليست علما ولكنها ذاكرة، لكون الذاكرة تطوع التاريخ وتخضعه لأهدافها. وقد تصبح الذاكرة موضوعا للتاريخ كما أن صاحب الذاكرة يمكن أن يصبح مؤرخا إذا اخضع عمله لمجهر المؤرخ. وأيضا يمكن أن تتحول الدراسات التاريخية في الكثير من الأحيان إلى ذاكرة حين تعمل على التخليد والاحتفالية. وإذا كنا لا نجادل في أهمية كليهما، فإن الخطورة تكمن في الخلط الذي ينتج لذا عامة الناس عندما لانميز بينهما،فيأخذ البعض كل ماينشر ويصور ويقال كذاكرة على أنه تاريخ عند عامة الناس الذين لم يتزودوا بمناهج تسمح لهم بإخضاعها للمنهج التاريخي. ورغمتصريح معظم الفاعلين والشهود أنهم لايتقمصون دور المحترفين بل يؤدون واجب الشهادة، فإن التمييز بين ما هو مذكرات وما هو تاريخ، يستعصي على عموم القراء والمستمعين والمشاهدين. كمثال على هذا المشكل تحدث الأستاذ جامع بيضا عن مذكرات أبو بكر القادري الذي يعلن عنوانها عن صفتها بكونها "مذكرات في الحركة الوطنية" ويؤكد كاتبها أنها ليست تاريخا،وأنه يتحدث فيها كشاهد. إلا أنه أحيانا يعطي بعض المواد التي قد تثير نقاشا. فعلى سبيل المثال يقدم القادري في مذكراته صورة عن وثيقة 11 يناير 1944 ويعنونها على أنها "الوثيقة الأصلية بتوقيعات أصحابها" مما لا يفتح المجال للشك فيها مادامت تقدم من أحد الموقعين عليها، بلانهذهالوثيقةهيالتيأصبحتنصباتذكاريافيبعضالمدنللاحتفاءبالذكرى.
لكن إخضاع المذكرات للتدقيق الأكاديمي من طرف الأستاذ جامع بيضا أسفر عن مشكل يتعلق بكون الوثيقة تضم ستة وستين موقعا، أعطى القادري نبذة عن كل واحد منهم.وهنا يبرز إشكالان، الأول يتعلق بكون الوثيقة أو الوثائق الأصلية سلمت للسلطان، ولممثل الإقامة العامة الفرنسية،ولممثل بريطانيا،ولممثل أمريكا وكذلك لممثل الاتحاد السوفياتي في المنطقة الدولية. والإشكال الثاني هو كون الأطراف التي تسلمت الوثيقة تصرح أنها تسلمت وثيقة بها ثمانية وخمسين موقعا، أي هناك فرق ثمان توقيعات مع وثيقة القادري. وهو ما شكل قلقا فكريا للأستاذ بيضا جعلهيسائلصاحبالمذكراتمباشرة،خاصة أن الأمر أصبح يتعلق بالتاريخ وليس بالمذكرات. فلم يجد عنده جوابا مقنعة تحت ذريعة عدم التذكر والنسيان.
لقد أكد الأستاذ بيضا أن جل الجهات تتحدث عنثمانية وخمسين فردا، كما أن حزب الاستقلال أصدر بباريز في شتنبر1946 كتيبا صغيرا ضمنه لائحة المطالب وضمنه أيضا لائحة الموقعين تتضمن ثمانية وخمسين موقعا.
انطلاقا من هذا المثال الواضح عن الأخطاء التاريخية التي تمررها المذكرات. أكد الأستاذ جامع بيضا على أهمية البناء البعدي الذي ينهجه التاريخ كعلم للتحقق من مصداقية الوثائق.ونبه إلى خطورة نقل الكتب المدرسية لمعلوماتها من المذكرات على أنها تاريخ. كما أشار الأستاذ بيضا إلى أن طغيان الذاكرة يدفع أحيانا بعض الشهود وأصحاب المذكرات للتطاول على دور المؤرخ باعتبارهم مالكين للحقيقة المطلقة بحكم معايشتهمللأحداث،ناسين أو متناسين أن كل شاهد يرى الأشياء من زاوية نظره الخاصة التي قد تختلف تماما عن وجهة نظر شهود آخرين عايشوا نفس الحدث. وان دور المؤرخ هو تجميع المعطيات ومحاولة إيجاد نسق معقول دون ادعاء التوصل إلى الحقيقة المثلى إذ أن منتوجه يرتبط بالمعلومات المتوفرة مما يجعله قابلا للتغير والتعديل في حال توفرت معلومات جديدة. لأن أدوات المؤرخ تسمح له بإعادة ترتيب احداث الماضي القريب والبعيد ببرودة أعصاب وبقواعد تمليها عليه الأعراف الجامعية.
بناء على ما سبق أكد الأستاذ بيضا أن عبد العزيزالطاهري، منح لنفسه الوقت الكافي للتشبع بالمقاربات النظرية لجدلية الذاكرة والتاريخحين أفرد لها الباب الأول من الكتاب معرفا بالذاكرة وآلياتها. ومدى تماثلها مع التاريخ،وغير ذلك من القضايا التي يتوجب الإمساك بها قبل الخوض في فترة الحماية من منظور بعض المذكرات كنماذج، وفي محاولة الإحاطة بالأدوات المنهجية الضرورية لبحثه أشاد الأستاذ بيضا بالمجهود الكبير الذي بدله صاحب الكتاب للاطلاع على أكبر عدد ممكن من المراجع باللغتين العربية والفرنسية حيث أن اللائحة البيبليوغرافية للعمل ضمت مادة مهمة في موضوع الذاكرة والتاريخ. لاشك أنها ستشكل معينا للباحثين في الجامعة المغربية لإنجاز اجتهادات ومقاربات أخرى حول الموضوع. وفي هذا الإطار حث الاستاذ جامع بيضا الجيل الصاعد من الباحثين للاهتمام باللغات كأداة لا مرد عنها في البحث التاريخي لأن من يملك لغة واحدة غاب سهمه حسب تعبير الأستاذ. كما حث الأساتذة الحاضرين على تحفيز تلاميذهم للاهتمام بموضوع اللغات.
وبخصوص القضايا التاريخية التي ارتأى الباحث أن يستنطقها، ويمعن في تفاعل المذكرات معها. فقد اختار تتبعها كرونولوجيا كلاسيكيا رغبة منه في الوضوح وتفاديا للالتباس والتشعب وقد وفق في ذلك. فمن خلال ثلاثة فصول يرافق الباحث القارئ من المقاومة المسلحة إلى الحركة الوطنية، ثم الحركة الوطنية من المطالبة بالإصلاح إلى المطالبة بالاستقلال، وصولا إلى الأزمة المغربية وتحقيق الاستقلال.وهي أمور يعرفها كل من له اطلاع بسيط على المراحل التاريخية للمغرب المعاصر. ولكن القيمة المضافة تكمن في إعادة مساءلتها في ضوء المذكرات والسير المختلفة المشارب الإيديولوجية والمناطق الجغرافية فضلا عن زمن التذكر. فمن مسارات فردية انتقل الباحث إلى مقارنات وتحليل تركيبي للأحداث التاريخية يتلمس القارئ من خلالها الوقائع والتمثلات وفق ثنائيةالذاكرة والنسيان
وكان طبيعيا إلى حد ما أن يحصل الاتفاق أوشبه الاتفاق كلما تعلق الأمر بقضايا موغلة في القدم، بينما تختلف المذكرات في تأويل القضايا القريبة زمنيا والتي كان الرواة الشاهدون أطرافا فيها ذلك أن سخونة الحدث مرتبطة برهانات الحاضر التي تفقد الراوي موضوعيته المفترضة،فينزع عن وعي أو عن غير وعي إلى الذاتية في تفسير الأحداث. وهنا تتعسف الذاكرات على التاريخ خاصة أن أصحابها في أغلبهم رجال سياسة لا يستطيعون التخلص من عباءتهم الإيديولوجية. مما يتطلب زيادة في اهتمام المؤرخين بتاريخ الزمن الراهن الذي مازال بكرا في حضيرة المؤرخين، عليهم الانخراط فيه واقتحامه وتطوير أدواتهم الأكاديمية للبحث فيه من خلال الانفتاح على تخصصات أخرى، يستلهم منها المؤرخ مايعزز أدوات عمله.وفي الأخير اعتبر الأستاذ بيضا المحاولة التي قام بها عبد العزيزالطاهري إثراء للمكتبة المغربية، إذ تفتح آفاقا البحث أمام باحثين آخرين. وأنهى مداخلته بتهنئة الأستاذ الطاهري على تتويج كتابة بجائزة المغرب للكتاب.
مباشرة بعد كلمة الأستاذ بيضا قدمت رئيسة الجلسة الأستاذ محمد حبيدة لعرض المداخلة الثانية في الندوة.
استهلالأستاذ محمد حبيدة مداخلته، بالتأكيد على أهمية الموضوع الذي اقتحمه الأستاذ عبد العزيز الطاهري، لكونه لم يحظ باهتمام المؤرخين فحسب بل كان موضوعا للبحث الفلسفي والسوسيولوجي والأدبي.وقد ركزت مداخلته في بدايتها على تقديم مجموعة من الدراسات التي اهتمت موضوع الذاكرة.
حيث أشار أن هنري بيرغسونHenri Bergsonكان من الأوائل الذين اهتموا بموضوع الذاكرة من خلال كتابه "المادة والذاكرة"Matière et mémoire (1896) مؤسسا للأبحاث حول الموضوع في كل من السسيولوجياو الفلسفة و التاريخ، ثم جاء بعده كتاب Maurice Halbwachs موريس هالباكس Les cadres sociaux de la mémoire(1926) الذي بلور نظرية عن الذاكرة الجمعية اعتبر فيهاأن عملية التذكر الفردية لا يمكن أن تنشأ أو تتم إلا ضمن إطار اجتماعي معين،على عكس التصورات العلمية التي كانت سائدة في عصره، والتي كانت ترى في الذاكرة والتذكر مجرد وظيفة بيولوجية محضة.
أما فيما يخص التاريخ فقدظهرت اول دراسة تاريخية حول الموضوع لبيير نورا في النسخة الأصلية لسنة 1978،وهو مقال الذي ترجمه للعربية الأستاذ محمد حبيدة.
تناسلت الدراسات بعد ذلك حيث صدرت الدراسة الشهيرة لجاك لوغوفJacques Le Goffسنة 1988. ثم بعد ذلك صدرت دراسة الباحث البريطاني بول كونيتونPaul Quinton"كيف تتذكر المجتمعات"1989.
وقد أكد الأستاذ حبيدة أن الحديث عن الذاكرة لا يمكن أن يستقيم دون ذكر مشروعPierre Nora حول أماكن الذاكرة Lieux de mémoiresإذ يعتبر كتاب أماكن الذاكرة لحظة مفتاح للتاريخ الثقافي الفرنسي، وهو عبارة عن سبعة مجلدات، رتبت في ثلاثة عناوين كبرىLa republique "الجمهورية"1984 La nationالأمة ( ثلاثة مجلدات) 1986 Les Frances 1992(ثلاثة مجلدات) جمعت مئات المؤلفين من مختلف المدارس التاريخية. لقد كان الطموح الأساسي لدراسة أماكن الذاكرة هو توسيع الدعوة الى دراسة تاريخ فرنسا من خلال الذاكرة. هذه المقاربة التي اعتمدها P.Nora منذ تأليفه لمجلد حول التاريخ المعاصر سنة 1970.
ليقترح سنة 1978على مؤرخي الزمن الراهن بناء تاريخ انطلاقا من "الذاكرة الجماعية"، يتعلق الامر بالانطلاق من الأماكن بالمعنى المضبوط للمفهوم. أي ذلك المكان الذي يختزن فيه مجتمع انساني مهما كان نوعه (امة-اسرة-اثنية...) بشكل إرادي ذكرياته التي يجد أنها جزء أساسي من شخصيته.
بعد هذه الإشارة المقتضبة لأدبيات البحث حول موضوع الذاكرة، تحدث الأستاذ محمد حبيدة عن كون العلاقة بين الذاكرة والتاريخ تكمن في الإشكالية التي تذهب بالذاكرة نحو التاريخ، أثناء مسار الانتقال من الذاكرة إلى التاريخ حيث تنقل الذاكرة صعوبتها المتعلقة بتمثيل شيء غائب وقع سابقا واستعصاء ممارسة استذكار الماضي التي يرفعها التاريخ إلى مستوى إعادة بناءها -حسب قول بول ريكور-ومع ذلك تبقى الذاكرة حسب بيير نورا "أكثر وقعا من التاريخ بالقياس على درجة تأثيرها في أوساط عامة الناس مع ما تختزنه في ذاكرتها من أحكام مسبقة، فالتاريخ ينتج كثيرا ولا يقنع إلا قليلا ليس فقط لذا العوام ولكن أيضا لذا المثقفين". حيث لاحظ نورا على سبيل المثال ان مكتبات بأكملها عن بطلان العنصرية لم تفلح في الحد من هذه الظاهرة.
الفكرة الثانية التي تناولها الأستاذ حبيدة هي الذاكرة والنسيان. ففيما يخص المغرب نجد الذاكرة الرسمية المغربية المتمثلة في الأوساط السياسية والإعلامية وهيئات المقاومة ...الخ، تخلد معركة وادي المخازن، ومعركة أنوال، وتخلد ذكرى وثيقة عريضة الاستقلال. بينما تتجاهل ذكرى هزيمة إسلي1844، وهزيمة حرب تطوان1859 ولاتخلد معاهدة الحماية. وهنا تبدو الذاكرة حسب بول ريكور Paul Ricœurكتنظيم للنسيان. وإذا سلطنا الضوء على مرحلة الحماية من زاوية تفادي استحضارها من طرف الهيئات السياسية فإننا سنولي اهتماما خاصا لمسألة النسيان هذه. حيث كان فرويد قد تحدث عنها بكونها وسيلة دفاعية لمواجهة الأحداث القاسية والمهينة، وهنا يمكن للمؤرخ أن يقتبس أدوات التحليل النفساني لينتقل من نفسانية الافراد التي يشتغل عليها المحللون النفسانيون، إلى نفسانية الجماعات التي من شأنها أن تقيم جسورا بين الماضي والحاضر.فيركز في المقام الأول على هذا النسيان لاسترجاع ما هو منسي لأن الاهتمام بما لايخلده المجتمع يمكن من فهم الكثير من الأمور في الحياة السياسية والاجتماعية.
وختم الأستاذ حبيدة مداخلته بتوضيح قضية النسيان من زوايا متعددة، لأن النسيان لايحيل بالضرورة إلى خلل في الكتابة أو في عملية الكتابة، بل انه قد يكون ضرورة لتجانس الذاكرة. وضرب الأستاذ على ذلك بمحاضرة ألقاها إرنيست رينانErnest Renan في السوربون سنة 1882 نشرت سنة 1887 تحت عنوان "ماهي الامة؟" Qu'est-ce qu'une nation ?تكلم فيها عن الامة في السياق الفرنسي المتمثل في هزيمة فرنسا سنة 1870 أمام ألمانيا وخسارة إقليمي الألزاس واللورين. إذ يقول رينار "تنشا الامة عندما يتقاسم أفرادها أشياء كثيرة وأيضا عندما يتمكنون من نسياء أشياء كثيرة"
المداخلة الثالثة في الندوة ألقاها الأستاذ حميد هيمة، أستاذ مادة الاجتماعيات بالثانوي التأهيلي، حيث قدم قراءة في الكتاب من وجهة نظر ديداكتيكية من خلال مقارنة الأفكار التي جاء بها الكتاب بواقع حضور الذاكرة والتاريخ في المعرفة المدرسية. اعتبر فيها أن قضايا الذاكرة في التاريخ المدرسي تجسد نموذجا واضحا للانفصال بين المعرفة الاكاديمية والمعرفة المدرسية. وقد أشار الأستاذ هيمة أن هناك إجماعا بين أساتذة المادة أن الإشكال يكمن في ندرة البحث الأكاديمي الديداكتيكي حول قضايا الذاكرة والهوية. ومن أجل ذلك حاول تقديم إضاءة نظرية ومنهجية ودراسة تفكيكية للذاكرة في مرآة التاريخ المدرسي.
خصص الأستاذ هيمة الإطار النظري للحديث عن مفهوم الذاكرة وخصائصها وأيضا ذاكرة الاشتغال، حيث عرف الذاكرة بكونها مفهوما ملتبسا ليست استرجاعا مباشرا أو تأملا للتجارب والأحداث الماضية فقط بل هي القدرة على التمثل الانتقائي لهذا الماضي بقصد بناء الهوية الفردية والجماعية" كما قدم تعريف بيير نورا للذاكرتين الجماعية والتاريخية إذ اعتبر الأولى " صورة ذكرى او مجموعة ذكريات واعية لتجربة معاشة او مشبعة بحمولة أسطورية، قوامها هوية جماعية ذات ارتباط وثيق بالإحساس بالماضي" بينما عرف الثانية بكونها" تمتاز بالوحدة لأنها ثمرة تقليد معرفي وعلمي" وبكونها أيضا "الذاكرة الجماعية لجماعة المؤرخين".وفي هذا السياق انتقد الأستاذ هيمة تبني كتاب الذاكرة والتاريخ لمقاربة بول ريكور التوافقية في انتساب الذاكرة، والحال أن عدم التمييز بين الذاكرة الجماعية والذاكرة الجمعية أو مجمل الذاكرات الجماعية ترتب عنه إخلال بواجب الذاكرة، وهو ما تجلى في الباب الثاني من الكتاب الذي يختزل العمل الوطني في النخب الحضرية التي امتلكت سلطة او امتياز الكتابة عن ذاتها أو ماضيها. وبالتالي فإن هذه الذاكرة المبتورة من وجهة نظر المحاضر، لم تستوعب كل القوى الاجتماعية والسياسية لحركة التحرر الوطني. وفي المحصلة فإن الكتاب رغم ثرائه المعرفي ة والمنهجي ركز على الذاكرة الجماعية للنخب الحضرية.
أما فيما يخص الدراسة التفكيكية للذاكرة في مرآة التاريخ المدرسي فقد تقاطعت مداخلة الأستاذ هيمة مع الكثير من الأفكار التي جاءت في المداخلتين السابقتين، حيث أكد ان التاريخ المدرسي تاريخ انتقائي يحتفي بالانتصارات ويتناسى الهزائم ويقدم رواية للتاريخ تنسجم مع الروايات الرسمية،الأمر الذي يجعله ذاكرة أكثر من كونه تاريخا.
لقد أكدت مداخلة الأستاذ هيمة أن المعرفة التاريخية المدرسية تخضع لتناقضات وصراعات تعكس الرؤى السياسية والأيديولوجية التي تخترق المجتمع. وأن هذه التناقضات تبرزعلى السطح كلما تمت معالجة إحدى القضايا الحساسة ذات مخلفات في الذاكرة الجماعية أوالمرتبطة بالهوية. وهوما دفع في نهاية مداخلته للدعوة إلى إعادة مناهج التاريخ لتتحول إلى مشترك رمزي يغذي مواطنة تؤمن بالأبعاد المحلية وتنفتح على المعارف والقيم الكونية. وترسخ مفهوم الانتماء المحلي الذي يتشكل منه المسارالتاريخي الشخصيات للمتعلمين وللجماعات والمجموعات المحلية بوصفه أحد مداخل تجويد المعرفة التاريخية.
المداخلة الأخيرة في الندوة كانت للأستاذ الطاهري مؤلف كتاب"الذاكرة والتاريخ"
استهل الأستاذ عبد العزيز الطاهري مداخلته بشكر كل من تقاسم معه فرحة التتويج بالإسهام في إنجاح هذه الندوة،مشير أن الكتاب كان في الأصل أطروحة لنيل دكتوراه دولة في التاريخ أشرف عليها الأستاذ جامع بيضا. وأن إكراهات الأطروحات الجامعية خاصة تلك المرتبطة بالوقت كانت سببا فيعدم تناول موضوع الذاكرة بشكل شمولي، وحصر أدوات دراسته في مذكرات وشهادات فاعلين تاريخيين خلال الفترة الاستعمارية. مؤكدا أنه يحمل هم مشروع مستقبلي طموح يهدف لتوسيع أدوات ومجال الاشتغال حول الموضوع.
في سياق الحديث عن الكتاب أكد الدكتور الطاهري أن الهدف من بحثه كدراسة ذاكرة الفترة الاستعمارية بالمغرب بين 1912-1956. عن طريق مقاربتين نظرية ونقدية تاريخية لشهادات كتبها فاعلون تاريخيون. حيث خصص الباب الأول لتقديم مقاربة نظرية للذاكرة، من أجل الإحاطة الجيدة بجدلية الذاكرة والتاريخ وتحديد أوجه الاختلاف والتشابه بينهما في تمثل كتابة الماضي. من خلال مساءلة إشكالات الذاكرة، والعناصر المؤثرة في الانتقال من الذاكرة إلى إلى الكتابة (الادب-الخيال-موقع النسيان-الذاتية والموضوعية-التعامل مع الزمن)، من أجل تعرف مدى تقيد الشاهد/كاتب المذكرات بواجب الذاكرة وحمايته للماضي من النسيان، او بعبارة أخرى تعرف مدى الالتزام بميثاق الحقيقة في كتابة المذكرات. وقد ساعد التمييز بين كل من الذاكرة، والسيرة، الذاتية، والسيرة، المؤلف على تصنيف الكتابات التي حاولت التأريخ للمرحلة التي يشملها موضوع البحث 1912-1956 كما يلي: (كتابات أشخاص كانوا زعماء أو فاعلين سياسيين في المراحل التي أرخوا لها- مقالات صحافية -كتابات تتميز بصيغتها السياسية "نداء القاهرة لعلال الفاسي"-التقارير السياسية "عقيدة وجهاد لعلال الفاسي"، و"الاختيار الثوري للمهدي بنبركه"
أضاف الأستاذ الطاهري أن تحديده لتعريف الذاكرة وتصانيفها. ومحاولته الجواب عن ماهيتها وسياقات تذكرها، وأيضا تحديده لعلاقاتها مع الشاهد والمجتمع، مكنته من الكشف عن وجهات نظر أصحابها المتباينة أحيانا، والمكملة لبعضها البعض أحيانا أخرى والمتعارضة في الكثير من الأحيان،حسب اختلاف زاوية الرؤيا وحسب الحقبة الزمنية التي تتناولها بالدراسة. وفيما يخص المذكرات والكتابات الوطنية التي اهتمت بفترة الحماية لاحظ أن الخلافات بينها تبرز بجلاء عندما يتعلق بمساهمات وأدوار الفاعلين، سواء كانوا أفرادا أو جماعات في أحداث المرحلة الممتدة من ثلاثينيات القرن الماضي إلى حصول المغرب على الاستقلال. وفي انسجام مع قدمه في الإطار النظري في الباب الأول من بحثه استنتج من خلال تفكيكه للمذكرات انها تدور في فلك الفعل التاريخي للشاهد لكونه يمثل مركز الحدث في روايته، إذ أنه يطوعها للدفاع عن مواقفه ويجعلها ساحة لمعاركه وصراعاته، من خلال ترسيخ احداث وتهميش أخرى. وهنا تكمن الحاجة الى التاريخ بصفته كتابة تتميز بموضوعية نسبية، كما أن مواضيعه خارجة عن ذات المؤرخ، مما يسمح له بالوفاء بميثاق الحقيقة كلما تقيد بقواعد المنهج وأدوات المهنة.
وفي ختام كلمته أكد الأستاذ عبد العزيز أن مشروع التاريخ والذاكرة مازال مفتوحا لسبر أغوار فترات أخرى من تاريخ المغرب، وتجريب مناهج وأدوات متعددة للمقاربة.
وبعد هذه المداخلة الختامية تدخلت رئيسة الجلسة لفتح المجال أمام تساؤلات الحضور، التي ابانت عن تفاعل عميق مع الموضوع، صب معظمها في كون واجب الذاكرة هو رهان مجتمعي يهم كل أطراف الجماعات /أو المجموعات المتعايشة في ربوع الوطن الواحد.
أعقبت الأسئلة تعقيبات للأستاذين جامع بيضا ومحمد بيضا. حاول فيها كل منها الإجابة عن الأسئلة المطروحة في شمولها. لتنتهي بعد ذلك الندوة بتقديم جوائز تذكارية للأستاذين الزائرين، وأيضا حفل توقيع للكتاب، أعرب خلاله الحضور عن سعادتهم بهذا الحدث الثقافي المتميز بكل المقاييس، شاكرين الاستاذ عبد العزيزالطاهري وكل اعضاء جمعية اساتذة الاجتماعيات على التنظيم الجيدة والانفتاح المتميزعلى كافةهيئات المجتمع بكل اطيافه، اساتذة جامعين من أفضل ما انجبت الجامعة المغربية. المؤسسات الثقافية والتربوية الرسمية بالإقليم،منتخبون،فاعلون جمعويون, أساتذة ومهتمون بالشأن الثقافي من جميع الاطياف. دون إغفال البادرة الاروع والتي يجب ان تسجل في تاريخ المدينة، وهي الحضور المتميز لتلاميذ المؤسسات التعليمية. الذي كان تعبيرا يحمل دلالات كبيرة عن وفاء متبادل بين تلاميذ واساتذتهم.وتفرق الجميع على أمل المزيد من التألق والتميز في القادم من الرهانات من أجل الارتقاء بالمجال الثقافي لمدينة سيدي سليمان.
محول الأكوادإخفاء محول الأكواد الإبتساماتإخفاء الإبتسامات